انتهينا في الجزء الأول إلى أن الحس الجماعي لحراك الشعب الجزائري -كما تمظهر من خلال شعاراته- انتقل من ردة الفعل و الانفعال، عبر قلة حيلة و رشد، نحو بدايات العودة للفاعلية التاريخية التي من شأنها التأسيس لفلسفة و ممارسة إنعتاقية جديدة أساسها سيادة الشعب و أداتها مزدوجة الحرية و الكرامة.
و يبقى تحديد ماهية السيادة التي يتوق إليها الشعب من أحد أشد الرهانات صعوبة في هذه المرحلة من الحراك، بما في ذلك تحديد الوجهة الصحيحة التي يجب اتخاذها لتحصيل شروط تحقق السيادة، وبالتالي تعدي المطالبة بها فحسب.
و للمساهمة في تشخيص شروط تحقيق سيادة الشعب، لابد أن ننطلق من تسليط الضوء على تاريخية الظرف الراهن للحراك وتحديد ماهية السيادة ضمن تلك التاريخية. فإذا اتفقنا أن الشعب الجزائري قد درء عن نفسه غبار سباته مستيقظا يريد أن يعود ليصبح فاعلا في التاريخ و صانعا له لا منفعلا ومسخرا فيه، فمن الواجب أن نتسائل عن طبيعة الظرف التاريخي الذي استيقظ فيه وعن العوامل التي أنتجته.
بحكم انتماءنا الحضاري يمكننا أن نلخص صورة هذا الظرف التاريخي على أنه نتاج لاستعمارين؛ أحدهما مباشر و آخر بالوكالة؛ يتخللهما ركودان أحدهما ذاتي كامن كان من أسباب أولى الاستعمارين، وآخر أجنبي خارجي و قصدي أُريدَ به تكريس ثاني الاستعمارين. فكيف ذلك…؟
البلدان المسلمة بما في ذلك بلدان الشمال الإفريقي ، اتصفت بركود اجتماعي ميز فترة الانحطاط التي أشار مالك بن النبي إلى جانب منها بمفهومي إنسان مابعد الموحدين و القابلية للاستعمار التي استفحلت في ثقافة ذاك الإنسان. وذهب أبو يعرب المرزوقي إلى أن امتداد فترة الركود يصل إلى سقوط الخلافة العباسية في منتصف القرن الثالث عشر على يد غارات المغول شرقا وما واكبها من حروب استرداد غربا أسقطت الأندلس وكادت تستولي على جل الشمال الإفريقي.
هربت الشعوب العربية والمسلمة إلى ذاتها وانطوت على نفسها في ردة فعل طبيعية من جراء وقعة الصدمات المتتالية فاستغرقت في تصوف تصورت أنه سيجنبها الأخطار الخارجية، فخبت بذلك روح الفكر المبدع المنفتح على العالم والواثق من أصالته و مرجعيته تدريجيا. وثقافة مابعد الموحدين التي أشار إليها بن النبي تمثل نتاج هذا التقوقع على الذات، فهي ثقافة تقل فيها الرؤية الكلية لحركية التاريخ والوعي بتموقع الفرد و الجماعة منها، يكثر فيها الكلام على حساب الفعل و تجزّء فيها التحديات و الإشكالات التي تواجه المجتمع، ثم لا يتطرق لحلها إلا بنوع من الدروشة الساذجة المقطوعة الصلة عن نماذج الفكر والعمل الأصيلة للمجموعة.
أما ابن خلدون -في قراءة المرزوقي له- فقد كان أكثر صراحة في تحديد آليات داخلية تكرس الركود و الجمود الاجتماعي وصف إحداهما بعنف التربية والأخرى بعنف الحكم. والعنف المقصود هنا لا يقتصر على الجانب المادي بل يتجاوزه ليشمل الوصاية والوساطة تحديدا. العنف التربوي والسياسي يسلبان حرية الفرد عندما يفرض المربي أو السياسي خطابه على الفرد فيصبح بذلك وصيّا عليه ووسيطا بينه وبين إرادته. عندئذ، يقول ابن خلدون، لا مناص من أن يصبح الفرد عالة على غيره، فينتج عن إجتماع أولئك الأفردا مجتمع “عيّال فاقد لمعاني الإنسانية -التي أشرنا إليها في الجزء الأول من هذه المحاولة- مجتمع تتفشى فيه أضداد تلك المعاني؛ من جبن وكسل ونفاق ودهاء، يدفع الفرد نحو مناورة عنف المربي والحاكم، فيحتال ويغش ويكذب وينافق ليتجنب الردع والعقاب ويحصّل الحماية والرعاية لنفسه رغم قسر وتعسف التربية والحكم في محيطه.
وبين تشخيص ابن خلدون وبن النبي نلاحظ انطباقا -يكاد يكون حرفيا لمايصفانه- على واقعنا اليوم، فإذا تأملنا سلوكات الأفراد والمجموعات في البلاد العربية والمسلمة سنلاحظ تفشي هذه المعاني “المضادة لمعاني الإنسانية” إن صح التعبير، بما فينا من افتقاد لرؤى كلية بديلة من جهة واستفحال لآليات العنف التربوي والسياسي من جهة أخرى تدفع بالافراد دفعا نحو تبني سلوك “الفرد العالة” -نقول مثلا في دارجتنا الجزائرية هذا إنسان “قافز” أو “يسلك راسو”- وهي صفات تطغى عليها غالبا سبل الرذائل والقبول بالأمر الواقع لتبرير سلوكات تنضخ في الحقيقة برواسب الركود الأول.
اتسم الركود الأول إذا بانعدام الرؤية الكلية وبتجزّء الفكر و العمل، وبتنشئة “الأفراد العيّال” عبر عنفي التربية والسياسة التي فرضت نفسها وصية على الفرد ووسيطة بينه وبين إرادته. وهي عوامل ساهمت في تهيئة المحيط للاستعمار المباشر كما هو معلوم. رواسب الركود الأول لاتزال حاضرة معنا والوعي بها ثم العمل على إزالتها هي إذن أولى أولويات شروط تحقيق السيادة اليوم.
About the Author