يعكف باحثون من مختلف أنحاء العالم على التحضير لإنجاز جهاز التيليسكوب الأضخم على وجه الأرض، و هو مشروع أطلق عليه اسم “آس.كاي.آي” و يهدف من خلاله إلى اكتشاف أسرار الكون و التوصل إلى حقائق علمية جديدة قد تحدث ثورة في علوم الفيزياء و الفلك.. النصر دخلت ورشة المشروع بمرصد “جودريل بانك” بالمملكة المتحدة، أين التقت بالباحثين هناك و اطلعت على تفاصيل حلم سوف تتحقق بعد 3 سنوات أولى الخطوات نحو تجسيده بالقارتين الأفريقية و الأسترالية، وسط تخوفات من احتمال تأثير المتغيرات السياسية على تمويله الدولي، سيما أن بدء استغلاله الفعلي لن يكون قبل 50 سنة.
بمقاطعة تشيستر الواقعة بضواحي مدينة مانشستر و وسط منطقة زراعية شاسعة تكسوها أشجار مثمرة و نباتات كثيرة، يوجد مرصد “جودريل بانك” التابع لجامعة مانشيستر و الذي أنجز منتصف القرن العشرين بهدف اكتشاف أسرار الكون، ليتحول مع مرور السنوات إلى مرصد مختص في دراسة علم الفلك الرادياوي تمّكن باحثوه الذين قدموا من مختلف أنحاء المعمورة، من تحقيق إنجازات علمية كبيرة، بالتوصل إلى حقائق جديدة حول النجوم الزائفة “الكويزرز” و النجوم النابضة “البلاسترز”، كما أعلن علماء اشتغلوا على تيليسكوبه الضخم في سنوات السبعينات، عن رصدهم، لأول مرة، عدسات الجاذبية التي تؤكد النظرية النسبية العامة لأربيرت أنشتاين، التي أحدثت ثورة علمية.
المرصد أنجز وسط منطقة فلاحية بعيدة عن البشر، لكي لا يتأثر عمله بالإشعاعات الخارجية، و قد استوقفنا عند دخوله مشهد حارس البوابة الذي كان يحمل بين يديه كتابا صغير الحجم يستغل كل دقيقة فراغ لمطالعة صفحاته.. كان في استقبالنا هناك الدكتور جهاد عفيفي و هو أحد أعضاء الشبكة الجزائرية للأكاديميين و العلماء الباحثين، التي نسّقت مع جمعية الشعرى لعلم الفلك برئاسة البروفيسور جمال ميموني، في رحلتها العلمية للمملكة المتحدة التي شاركت فيها النصر.
بمجرد دخول المكان يُمكن للزائر أن يرى عن قرب التيليسكوب الضخم الذي كنا نشاهده من بعيد قبل الوصول للمرصد.. الجهاز يُعدّ أكبر تيليسكوب متحرك في العالم، يمكن رؤيته عند التحليق في الطائرة بل و يعتبر نقطة مرجعية للطيارين عند دخول المطار القريب، و بحماس كبير شرحت لنا الدكتورة ميغان أرغو الباحثة في المجرات بمرصد جودريل بانك، طريقة عمل التيليسكوب، حيث قالت أنه يمكنه الدوران بـ 90 درجة في الدقيقة الواحدة، كما يُعد زيادة على مهامه العلمية و البحثية، معلما مصنفا بالمملكة المتحدة، ما جعل القائمين عليه يقررون فتحه للجمهور، إذ يزوره كل أسبوع قرابة 20 ألف شخص الكثير منهم من الأطفال الذين تهدف جامعة مانشيستر من خلال المرصد، إلى تحبيبهم في علوم الفلك و الفيزياء بأسلوب شيق و مميز، بحيث يوجد بداخله أجنحة يمكن للزائرين عن طريقها القيام بتجارب حية و الاطلاع على الأجهزة المستعملة في الأبحاث، كما يحتضن بصفة دورية مهرجانا ضخما للموسيقى تمتزج فيه العلوم بالأضواء الساحرة ليلا.
و بمرصد جودريل بانك رافقتنا الدكتورة ميغان أرغو إلى المقر الرسمي لمشروع أكبر تيليسكوب لا سلكي في العالم الذي اختير له اسم “سكوير كيلومتر آراي” أو “نسق الكيلومتر مربع” المعروف اختصارا بـ “آس.آي.كاي”، و هناك قدمت لنا شروحات أكثر عن فكرة التيليسكوب و عرضت لنا مجسمات صغيرة تظهر الطريقة التي ستوزع بها الهوائيات في القارتين الأسترالية و الأفريقية، قبل أن يستقبلنا الباحث الإيرلندي إيفان كيم، الذي قدّم لنا في عرض علمي شيق و مبسط، معلومات أخرى عن طريقة عمل الـ “آس.كاي.آي” و وظيفته في “البحث عن المجهول” و سبر أغوار الكون التي لم يستطع العقل البشري التوصل إليها بعد.
وجدنا أيضا في استقبالنا ماتيو إيسيدرو المكلف بالاتصال بالمشروع، حيث توجهنا معه إلى قاعة اجتماع تتوسط قاعات مفتوحة على بعضها بجدران زجاجية، تظهر خلفها أشخاصا من مختلف الأجناس و هم يتناقشون حول المشروع على موائد مستديرة و يتواصلون مع أشخاص آخرين عبر الشاشات.
يقول ماتيو إيسيدرو أن بداية التفكير في المشروع كانت في أوائل سنوات التسعينات من القرن الماضي، لأن العلماء كانوا ينجزون في كل مرة جهاز تيليسكوب يستعمل لبضع سنوات، ثم يتضح للفيزيائيين و الفلكيين حتمية إنجاز جهاز أكبر منه يستوعب الأغراض و الأبحاث العلمية التي تتطور مع مرور السنوات، و قد فكر الباحثون عبر العالم في إنجاز تيليسكوب قوي جدا بمساحة لا تقل عن 1 كيلومتر مربع، لمعرفة أسرار بداية الكون و كيفية تشكل الثقب الأسود و النجوم و المجرات و كذا الكواكب التي تسبح خارج المجموعة الشمسية، و هي تصورات، يتابع ماتيو، أخذت وقتا طويلا لكي تنمو و تتجسد في شكل مشروع “آس.كاي.آي”، مضيفا “الأمر يتعلق تقريبا بقلب صفحات كتاب بالعكس.. ربما ليس من صفحته الأولى لكن من صفحته الثانية على الأقل”.
و لاختيار البيئة المناسبة لتجسيد هذا المشروع الضخم، كان على الباحثين إيجاد مكان هادئ بعيد عن البشر و فريد، لأن أي إشعاعات قد تصدر عن الهواتف النقالة و الإذاعات، يمكن أن تؤثر بشكل كبير على عمل هوائياته التي يتم من خلالها التقاط الإشارات الصادرة عن الكون، ليقع الاختيار، بعد نضوج الفكرة في أذهان الفلكيين و الفيزيائيين و عقب سنوات من البحث، على موقعين أحدهما بغرب القارة الأسترالية، و الثاني يوجد بجنوب أفريقيا، ثم كمرحلة ثانية توسيع الهوائيات إلى دول أفريقية أخرى هي ناميبيا، مدغشقر، بتسوانا، كينيا، غانا و جزر موريس.
المشروع ضخم و طموح لكنه مكلف جدا و شديد التعقيد، كون الأمر يتعلق، حسب المكلف بالاتصال به، بوضع آلاف الهوائيات، حيث من الصعب أن تتكفل دولة فقط بتمويله، و يعترف ماتيو إيسيدرو بالتحديات التي تواجه ورشة تيليسكوب “آس.كاي.آي” رغم أن 10 دول، ليست البلدان العربية من ضمنها، أبدت استعدادها لتمويله، و هي المملكة المتحدة، السويد، إيطاليا، كندا، الصين، الهند، أفريقيا الجنوبية، أستراليا، نيوزلندا، كما أن دولا أخرى كثيرة عبرت عن اهتمامها به مثل فرنسا، إسبانيا، البرتغال، اليابان، كوريا الجنوبية، روسيا، البرازيل.
و يفسر القائمون على مشروع “آس.كاي.آي” عدم وجود الولايات المتحدة الأمريكية في قائمة الدول المستعدة لتقديم المساهمة المالية، بكونها التزمت بتمويل مرصد “ألما” بالشيلي الذي كلّف 1 مليار أورو، كما يرون أنه كان من الصعب إقناع الكونغرس الأمريكي بصرف الأموال على مشروع لا يقع على أرضهم، غير أن ماتيو إيسيدرو لم يستبعد إمكانية الحصول على تمويل أمريكي، لكن عن طريق الجامعات، فيما أبدت شركات كبرى في مجال التكنولوجيا و المعلوماتية اهتمامها بالمشروع، على غرار “غوغل”، “أمازون” و “آي.بي.أم”، إضافة إلى وكالة الفضاء “ناسا”.
و يقوم حاليا حوالي 50 شخصا من فيزيائيين فلكيين و مهندسين و مسؤولي الاتصال و الموارد البشرية و العلاقات العامة، بتسيير المشروع من مقر “جودريل بانك”، بالتنسيق مع فرق موزعة عبر العالم تضم حوالي 500 شخص، و ذلك تمهيدا للانطلاق، خلال 3 سنوات، في مرحلة الإنجاز بالموقعين اللذين اختيرا، و هي مرحلة تتطلب ما لا يقل عن 10 سنوات لإتمامها، و كانت قد سبقتها عمليات شق الطرقات و وضع شبكات البصرية.. فكرة المشروع تتمحور حول إنجاز عدد كبير من التيليسكوبات سيكون في البداية 200، ليصل تدريجيا إلى ألفين، عوض إنجاز تليسكوب كبير واحد.
و ردا على أسئلة النصر، كشف ماتيو إيسيدرو أن التكلفة الإجمالية للمشروع تقدر بـ 650 مليون أورو، و بأن بدء استغلاله للأغراض العلمية لن يكون إلا بعد 50 سنة كاملة، كما تحتاج ورشته لحوالي 250 ألف باحث لإعداد أبحاث في الهندسة و الإعلام الآلي و العلوم، و يعترف محدثنا بصعوبة إقناع الدول بتمويل مشروع بهذا الحجم، لكنه أكد أن الشركات الخاصة مهتمة به لأنه يسمح لها بتطوير السوق، النصر طرحت على ماتيو الذي جاء من فرنسا، تخوف الباحثين من تأثير نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مشروع العديد من المشتغلين عليه من الدول الأوروبية الأخرى، خصوصا أن مقره يقع على ترابها، فبدا متفائلا و قال “البريسكيت” لن يكون له أثر على الـ “آس.كاي.آي” لأن المشرفين عليه بصدد تأسيس منظمة دولية لحماية المشروع من التغيرات الدولية و سياسات الحكومات التي قد تتبدل خلال العقود المقبلة.
About the Author