لازلنا نتقفى شروط تحقيق السيادة ونحاول تشخيصها باعتبارها الهدف الأسمى الذي خرج من أجله الشعب الجزائري في حراكه المبارك. وقد لخصنا في جزئية سابقة من هذه السلسة كيف أن حراك الشعب الجزائري برز للوجود في ظرف تاريخي يمكن وصفه على أنه نتاج لاستعمارين وركودين تطرقنا لأحدهما في الجزء السابق؛ الاستعمار المباشر الذي تَقَدمه ركود كامن ذاتي؛ وسنتطرق هنا لثنائية الاستعمار بالوكالة وما يتخلله من ركود مصمَّم وقصدي أُريدَ به تكريس منظومة الهيمنة والسيطرة الدائمة على الشعوب.
الشعب الجزائري ليست بمعزل عن بقية الشعوب والأمم المستعمَرة والمقاومِة، فبعد أن تفانت الجهود والتضحيات لتحرير الأوطان وكللت حركات التحرر التي انتشرت في منتصف القرن العشرين باستقلالات أولية، غيرت قوى الاستعمار من آلياتها الاستعمارية مع بقائها محافظة على هدفها الأساسي في اخضاع الشعوب واستنزاف ثرواتها، فركزت على تكريس ركود ثان يحول دون تحقيق شروط الاستئناف الحضاري الحقيقي لتلك الشعوب بعد استقلالها، وسخرت لذلك آليتين أساسيتين: ١) العمل على تثبيت أنظمة وصاية منتدبة، ٢) التحكم في المجالات الأساسية لمعرفة ووجود الفرد والمجموعات والهيمنة عليها ضمن بنية الدولة القطرية.
الآلية الأولى أصبحت معروفة اليوم وقد زاد الحراك من تثبيت الوعي بها في الحس الجماعي، فجل الشعب الجزائري اليوم يتحدث عن ضرورة تحقيق استقلال حقيقي يبدأ بنبذ الأنظمة الفاسدة ليُكمِّل الاستقلال الأولي، وهذا في نظري من أحد المكاسب العظيمة لهذا الحراك. فقد وصل الوعي الجماعي إلى مستوى استيعاب مخططات قوى الاستعمار القديم\الجديد لتحريف مسارات استقلال الشعوب فتصبح استقلالات صورية تتولى فيها نخب متحكمة العمل على تحقيق ما عجز الاستعمار المباشر عن تحقيقه.
أنظمة الوصاية المنتدبة أنظمة تكرس التبعية والقصور لتُبقي الشعوب في حاجة لراعية خارجية من جهة، وتكرس الاستلاب الثقافي والتربوي في ظل هجومات ممنهجة لتفكيك ثوابت وقيم المجتمعات من جهة أخرى حتى تُنَفِّر تلك الشعوب من أصالتها ومرجعياتها. ولا تزال هذه الأنظمة المنتدبة تكرس عنفي السياسة والتربية – بمفهوم ابن خلدون الذي تطرقنا إليه في الجزئية السابقة من هذه السلسة (1) – لممارسة وظيفتها الوصائية وتحقيق هدفي القصور المادي والاستلاب الثقافي.
وبين وصاية يكرسها عنف سياسي داخلي وأخرى يكرسها عنف خارجي تجد الشعوب المضطهدة نفسها في مواجهة وصاية مضاعفة ذات بعدين: وصاية سلطة منتدبة على الفرد كونها وسيطة بين المستعمر القديم\الجديد ومصالحه في الداخل، ووصاية الخارج على تلك السلطة وكونها وسيطة بينه وبين باقي الفواعل في العلاقات الدولية. وهو ما يزيد من تركيب شروط تحقيق السيادة من هذا الجانب.
أما الآلية الثانية في تصميم الركود الثاني، فهي تعتمد على التحكم في المجالات الأساسية لمعرفة ووجود الإنسان والهيمنة على تمظهراتها على مستوى الدولة باعتبارها البنية الرئيسية لتنظيم المجموعات في الظرف الراهن. والقصد هنا هو الهيمنة على مجالي المكان والزمان تحديدا (2) .
تعمل قوى الاستعمار على التحكم في الفضاء المادي الذي يشغله الأفراد والمجموعات بتقسيمه إلى مجالات تتخطى الحدود الطبيعية والإنسانية وتجزئه بحدود صورية مصطنعة تخدم أطماعها في استنزاف الثروات. فالحيز الجغرافي الذي نشغله اليوم، بما تتيحه امتداداته المادية وقيوده الدبلوماسية قد فُرض علينا فرضا، وخطوط تقسيمه المصطنعة ليست خطوطا اعتباطية بل صُممت أساسا للوقوف دون تحقيق التنمية المستقلة. فالمستعمِر القديم\الجديد بهيمنته على مجال الوجود المادي، يسيطر على تحديد ماهية المكان فيفككها ثم يركبها من جديد على أسس تمكنه من التحكم في الثروة المادية التي ينتجها ذلك المكان فيُحدِث بذلك عجزا في قدرة الإنسان على تحديد وتعمير مجال وجوده المادي فيحول، مثلا، دون قدرته على إنشاء روابط طبيعية عضوية تبادلية بين أفراد مجموعته ليبقى محتاجا لواسطة خارجية وتابعا لها لتحقيق ذلك.
وهذا الوصف ينطبق على الدولة القطرية كذلك وعلى علاقاتها مع باقي الدول المجاورة وغير المجاورة، فمن دون السيادة على مكان الوجود تفقد الدولة سيادتها على تسيير شؤون الثروة المادية داخل ذلك المجال فتعجز على سد حاجات شعبها ورعاية متطلباته فتلجأ إلى واسطة خارجية لتحقيق ذلك.
ومن هنا يتبين لنا أن المشكلة الأساسية من الدعوة لـ”الفدرلة” كنموذج لتنظيم الاجتماع، أو الانفصال و”النضال” من أجل ذلك داخل الجزائر وخارجها هو في أحسن الأحوال نضال عمالة مباشرة لقوى الهيمنة الدولية، لأنه يكرس استراتيجيات التحكم في المكان كمجال وجود. أما في أسوئها فهو سفه يكشف عن سذاجة سياسية تغفل أو تتغافل عما في هذا “النضال” من اخضاع طوعي لأدعيائه وإخضاع كرهي لمن يقاومهم.
أما بالنسبة للزمان، فتعمل قوى الاستعمار على التحكم في الفضاء الرمزي الذي يشغله الأفراد والمجموعات، وتصميم الركود الثاني هنا يستهدف مستويين اثنين؛ مستوى الأحداث ومستوى الحديث عن الأحداث وكلاهما مستوى معرفي. ففي مستوى الأحداث تُجزَّأ الفكرة حتى تنفصل عن الرؤى الكلية التي تجسد تطلعات المجموعة، فيتذبذب بذلك وعي الفرد والجماعة بموقعها من حركية التاريخ. والتأمل في تواريخ الاستقلالات نفسها يعطينا مثالا على هذا: فقد رُبِّيَت الشعوب المستقلة، غالبا، على أن الاستقلال “حدث” أحادي ذري منفرد في الزمان، وقع وانتهى، وصُيِّر رمزا تاريخيا، فهدأت نفحته في مخيال الشعوب وفي ممارساتها وأولوياتها. بيد أن ما يقابل هذا التصور المجزأ هو تصور صيروري للاستعمار وللهيمنة باعتبارها ”عملية” متراكمة ومتراكبة وممتدة في الزمن تنم عن محاولة دائمة للسيطرة .
وهذا التضارب في رؤية الأحداث، بين جزئية “الحدث” وصيرورة “العملية”، هو نتاج لتربية لاشك أنها امتداد -سواء بإدراك ومنهجية أو بدونهما- للمنظومة التربوية الاستعمارية التي لاتزال قوى الاستعمار تمنّ بها على الشعوب المستعمرة بزعمها أنها من عناصر رسالتها الحضارية، بينما كانت -ولا تزال- منظومة تهدف لتشكيل وتكوين نخبة تخدم الهيمنة الاستعمارية باتخاذها من النموذج الغربي مثلا أعلى. وما هذا التضارب في رؤى “الحدث” و”العملية” بتضارب اعتباطي أيضا، بل أزعم أنه من أسس تصميم الركود الثاني وبدايات التأسيس للاستلاب الثقافي الذي يعززه المستوى الثاني من الهيمنة على الزمان كمجال أساسي لتشكيل المعرفة حول وجود الإنسان ووجود الدولة التي تنظم اجتماعه.
هذا المستوى الثاني، مستوى الحديث عن الأحداث، هو مستوى أعمق، إذ يتم من خلاله التحكم في ذاكرة الشعوب بفرض تاريخ استعماري يزور الحقائق ويروج لمرجعيات تاريخية تخدم صيرورة الهيمنة الاستعمارية من قريب أو من بعيد، فيشوه بذلك المعين الذاتي للأفراد ويفكك أوصال المجموعات وخصوصيات شراكتها التاريخية والحضارية ليركبها بعد ذلك، معرفيا، على شاكلة تسهل الهيمنة عليها. فبدل التاريخ الواحد والمرجعية الواحدة المشتركة، تجد الشعوب نفسها أمام مرجعيات مقسمة وأحيانا متضاربة.
وكما أن التحكم في مجال الوجود المكاني يتبعه التحكم في الانتاج المادي لزاما، وهي الثروة المادية للشعوب، فإن التحكم في مجال الوجود الزماني، من تاريخ و ذاكرة جماعية، يتبعه التحكم في الإنتاج المعرفي والرمزي لزاما، و هي الثروة الثقافية للشعوب، فيقسم التراث كما قسمت الأقطار بإلغاء التاريخ والذاكرة المشتركة، وبفرض تاريخ استعماري يكرس التبعية الثقافية ويقلص فضاء الابداع الثقافي ضمن خصوصية المرجعية الواحدة، فيحول بذلك دون التنمية الروحية والثقافية للأفراد والمجموعات والتي تعتبر أسس السيادة الحقيقية والانعتاق الحقيقي.
فعمق الهيمنة على الزمان والمكان إذن يتمثل في تغلغلهما في تفكيك وتشكيل وتركيب الآخر -الآخر المستعبَد والمهيمَنُ عليه والذي هو نحن- من الناحية المعرفية الإبستمولوجية من جهة ومن الناحية الوجودية الهوياتية الأنطولوجية من جهة أخرى وهنا تكمن خطورتهما إذ بهما تقوض القدرة على معرفة وتحديد مجالات وجود الذات فتقوض إمكانيات البقاء والمقاومة والانعتاق والسيادة.
About the Author